Saturday, December 12, 2015

والمنتخبون يبعثهم الله



 

والمنتخبون يبعثهم الله!

عندما يصرح بن فليس من هران قبل أسابيع قليلة أن هناك 3 ملايين صوت انتخابي استغل إداريا لتصويت الأحياء باسم الأموات، فإن الرجل لا يقول إلا الحقيقة التي طالما تحدث عنها العام والخاص منذ توقف المسار الانتخابي في بداية التسعينات. من ثم صارت كفة الأغلبية مباشرة إلى أحزاب السلطة وعلى رأسها حزب الإدارة "الأرندي". وقتها، ثارت ثائرة المعارضة المتبقية بأن 3 ملاين صوت قد تم تزييفها إداريا من أجل تشكيل الأقلية لأغلبية بأصوات الأموات، غير أنه لا أحد في السلطة استمع إلى هذه الأصوات المبحوحة، واستمرت السلطة في الحكم بأغلبية مشبوهة وبأصوات مسروقة.. من الأموات! هذا ما دفع بالأوروبيين إلى مطالبة الجزائر بتصحيح السجلات الإدارية في الحالة المدنية. لكن، إلى حد الآن لا نعلم أين وصل هذا الإصلاح! ونتساءل كما يتساءل بن فليس (رغم أنه هو الآخر كان ضمن المعادلة التي افتكت السلطة من الأغلبية الحقيقة): إلى متى سيظل الشعب الحي تحكمه أقلية بأصوات الموتى؟
نمت، وهذا التساؤل الغبي يخدشني من الداخل ويهز أركاني العامة لأجد نفسي أعود في التاريخ إلى الانتخابات المحلية والتشريعية الأخيرة وأنا صحافي لقناة محلية أصف من خلال كاميرا خفية تعمل بالأشعة ما تحت الحمراء وأخرى بأشعة ما فوق البنفسجية والتي تضبط كل الحركات غير المنظورة بالعين المجردة.
رصدت كيف أن قوائم الموتى قد ضبطت بشكل دقيق في البلديات، وكيف تم تجاوز لجان المراقبة وتزوير المحاضر وتم الانتخاب في كل البلديات عن موتى البلدية والتوقيع باسمهم وهم أموات! سمعت أحدهم يقول للجميع: علاه الموتى مش جزائريين؟ ومن حقهم الإدلاء بواجبهم الانتخابي؟ والشهداء علاش ما ينتخبوش. هم اللي حقهم ينتخبوا مش احنا، نحن فقط نقوم بالواجب الوطني اللي ما قدرناش نقوموا به وقتهم! هم حملوا السلاح ونحن سلحنا الحملة (الانتخابية)..اليوم..قط ما يفوتش! الأغلبية لنا باسم الشهداء الأبرار وموتانا رحمهم الله تعالى واسكنهم فسيح جنانه وألهم ذويهم الصبر والسلوان إنا لله راجعون وقل نفس ذائقة اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله "إكسيتيرا... إكسيتيرا"
علمت أن نفس العملية اتبعت في كل بلديات البلد وأن الأموات قد أعيد لهم الاعتبار في هذه الانتخابات! صغيرهم وكبيرهم ذكورهم وإناثهم، حتى من مات طفلا انتخب اليوم بدعوة أن الزمن بعد الموت لا يعادل زمن اليوم وأن الطفل الذي مات وعمره سنة هو اليوم أكبر. وحتى لو مات الأمس فقط، "فيوم عند ربك كألف سنة مما تعدون"! معناه أنه شيباني وأنه من حقه الانتخاب! على العكس، البعض من الأحياء هم من لا يحق لهم الانتخاب! تركناهم ينتخبون فقط لكي يرى الجميع أن حجم الإقبال على الصناديق كان كبيرا، لأن نسبة المشاركة المنظورة هي ما يهمنا! الأرقام الأخرى، مسألة داخلية ونعدلها ونضبطها كيفا شئنا ونعلن عنها كما نشاء! الريح ما يفوتش!..قط ما يزغدش!
كنت شاهدا على تصويت الموتى باسم الأحياء، غير أن الكاميرات قد تم حجزهما وتم إتلاف التسجيلات ومنعت من العمل لسنوات تحد التهديد بأنه "قد ينتخب أحد محلي في الانتخابات المقبلة إذا أصررت على الحديث عن الموضوع وكشفت المستور ولو في سطور"! سكتت طويلا، قبل أن أتفاجأ مؤخرا من خلال كاميرا نيميرك تشتغل بأشعة ما فوق البنفسجية بقيام الأموات بمظاهرات خفيفة لا ترها العين المجردة!
كانوا أكثر من 3 ملايين! حتى الشهداء وكانوا مليون ونصف! كلهم تظاهروا في مختلف البلديات بأشكال متعددة! لكن لا أحد سمع "أصواتهم" المسروقة، ولا رأى أجسادهم المضيئة ولا صورهم البريئة! كانوا كنقطة تبرق في ليل داج كما لو كنت تتفرج على مدينة "لص ـ أنجلص" ليلا! كلها أضواء، لكن لا أحد يرى أو يسمع! الكل كان يطالب بعودة الشرعية إلى الشعب وإعادة الأصوات إلى أصحابها والكف عن التلاعب بأصوات الذين انتقلوا إلى العالم الآخر قتلا أو انتحارا أو موتا بمرض أو فجائي أو نتيجة الهرم أو المرض العضال أو قلة الدواء أو خطأ طبي في التشخيص أو في عيادة خاصة أو بسبب إهمال طبي وشبه طبي في المستشفيات العمومية! الكل كانوا هنا ينادون في صوت خفي أن أعيدوا إلى الشعب صوته وأعيدوا لنا حرمتنا وهناءنا الأبدي الذي لم نهنأ فيه أبدا!!
أشهر من بعد ذلك، ويبدأ العمل التخريبي والإرهاب الأعمى والعنف غير المنطقي وحرق الأجساد غير المبرر! وأكتشف مرة أخرى من خلال كاميرا أشعة ما تحت الحمراء وفوق البنفسجية أن بعض الأموات، قلة منهم وكانوا في حدود المليون، قد تحولوا إلى "زومبي" وخرجوا عن بكرة أبيهم بأعدادهم الهائلة لينشروا الرعب في الأرض ويعيثوا في الأرض فسادا! دماء في كل وادي وشارع وحي وجامع وساحة وحافلة ومطعم! إنهم يعتدون على الأبرياء من الأحياء ويهاجمونهم ليتحولوا بدورهم إلى "زومبي" بعد ساعة!
وجدت نفسي وسط هذه الجموع المتوحشة من الكائنات الفظيعة التي لا هي حية ولا هي ميتة وتعتدي على الأحياء وتسفك الدماء وتحول الأحياء إلى شبه أموات متوحشين متعطشين إلى الدم البشري واللحم الآدمي! صور فضيحة لم أر مثلها سابقا ولا لاحقا! كنت وسطهم ولا أملك إلى قلم رصاص! رحت أطعن هذا بهذا القلم : ذلك في رأسه وذاك في قفاه وتلك في عينها  والآخر في جنب جمجمته! كل هذا، والقلم لا ينكسر بل يزداد صلابة وطولا حتى صار كما لو كان يعمل بأشعة ليزر فتاكة: من تصب تمته ومن تخطأ لا يعمر ولا يهرم!
كنت مسربلا بالدم، جسمي مطلي باللون الأحمر وقد ساعدني الكثير من أحرار البلد في محاولة اجتثاث هذه الغونغرينا من الجسد الوطني!
قضينا على الكثير منهم وبقي القليل، وخوفي الآن أن يتكاثر هؤلاء "الزومبيون" مع الوقت ومع تفاقم الأزمات وانسداد الأفق السياسية والاقتصادي والاجتماعي للمواطن في الوطن وفي العالم.
وأفيق بعدما نمت على متابعة الحلقة  السابعة من النسخة السادسة من مسلسل "وولكينغ داد".  
ديسمبر 2015

رفقاء الأمس.زفرقاء اليوم!
















رفقاء الأمس.. فرقاء اليوم!

التراشق الإعلامي ضمن "العائلة" الثورية الذي تزامن مع كل مناسبة وطنية منذ أشهر، والذي كان آخرها ـ وليس نهايتها ـ التلاسن الحاد بمناسبة مرور 61 سنة على اندلاع ثورة التحرير الوطنية، بين الجنرال المتقاعد، وزير الدفاع الأسبق، خالد نزار، وبين المجاهد  العقيد عمار بن عودة، أحد جماعة 22 الثورية وصاحب أول تشريف رئاسي أيام الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد بوسام الاستحقاق من مصاف الأول وسام الأثير. هذا إضافة إلى حوارات مع مجاهدي الرعيل الأول الذين فضلوا السكوت قبل اليوم، وصدور عدة مذكرات لمجاهدين سابقين. العقيد بن عودة، الذي أكد أنه لم يكتب مذكراته لأنه ليس مؤرخا ولا يريد أن يسطو على التاريخ، اغتنم الفرصة هذه المرة ليقلب المجن على الجنرال خالد نزار الذي اتهمه بأنه لم يكتف فقط برفض تصحيح تاريخي في مذكراته، بل ضربه بحذائه العسكري عدة مرات في رجله حتى أدمت وهو يردد له عبارة "تتحداني" أكثر من مرة. ولولا تدخل الجنرال عطايلية لردعه لكان وصل به الأمر ربما لشيء آخر في حق واحد من 22 من مفجري الثورة! هذا بحسب تصريح العقيد بن عودة للشروق اليومي.
تزامنت مناسبة الفاتح نوفمبر هذه السنة أيضا، بإعادة فتح ملف "ضباط فرنسا" الذين التحقوا بجيش التحرير مع بداية المفاوضات. هؤلاء الذين قال عنهم بن عودة وآخرون أيضا أنهم التحقوا بالجيش إما لأنهم تأكدوا أن مدة بقاء فرنسا في الجزائر لم يعد طويلا، وإما أن يكونوا قد سرحوا ضمنيا من أجل خدمة المصالح الفرنسية في الجهة الأخرى بعد الاستقلال على رأي ديغول، الذي ذكره العقيد بن عودة لما سئل عن هؤلاء الضباط الجزائريين الفارين من الجيش الفرنسي والملتحقين بجيش التحرير، حيث أجاب ديغول قائلا: "إننا نحتاجهم هناك أكثر مما نحتاجهم هنا"!. هذا الموضوع الذي أسال الحبر والدم واللغط واللعاب منذ السنوات الأولى لاستقلال عندما قرر الراحل هواري بومدين أن يستفيد من خدمة هؤلاء من أجل عصرنة الجيش الوطني الشعبي. هذا القرار لم يرق العديد من الضباط والمجاهدين الأوائل الذين رأوا في هؤلاء الوافدين الجدد في آخر ربع ساعة، يتحكمون في الإدارة وفي المناصب الحساسة، فطالبوا بتطهير الجيش. من هؤلاء الرائد شعباني الذي قتل لهذا السبب وحاول الطاهر الزبيري أن يدبر انقلاب 1965، لهذا السبب وأسباب أخرى بالتأكيد، خاصة وأن بومدين كان قد قال: "من أسمعه يتحدث مرة أخرى عن ضباط فرنسا، أضع له حجرا في فمه". كما يروى أنه قال عن مطالبة الطاهر الزبيري بذلك: شكون هو هذا الطاهر بن الطاهر اللي باغي يطهر الجيش"!كل هذه الأمور طفت وتطفو على سطح البركة الراكدة منذ الاستقلال، إيذانا بجيل الثورة الأول الذي بدأ ينقرض واحدا واحدا مع بداية الصباح. هذا الأمر دفع إلى البوح بما سكتت عنه شهرزاد من كلام غير مباح!
نمت على ضجيج التصريحات والتصريحات المضادة والرد والردود المضادة (للطائرات) من هذه الحرب التحريرية الإعلامية بين رفقاء الأمس فرقاء اليوم! لأجد نفسي أكتب مذكراتي أنا الذي تحصلت على شهادة مجاهد (كان بإمكاني بالمال أن أحصل لو أردت حتى على شهادة "شهيد"! وأنا حي!) بعد أن دفعت المال لشهود زور كانوا هم الآخرون قد زوروا ملفاتهم! بدأت كتابة مذكراتي منذ سنة وأنهيتها قبل 1 نوفمبر الأخير! كتبتها بالدارجة حتى يفهمها الجميع! فأنا من مدرسة بن غبريط التاريخية! عمل أبي مع فرنسا في الإدارة والمجالس البلدية كمزور محترف للانتخابات وكممثل شرعي لسكان بلديته الذي صعد معظمهم للجبال ولم يبق إلا النساء والأطفال. كل الرجل ماتوا ولم يعد بعد خمس سنوات أحد يعرفني ويعرف تاريخ أبي. بعد الاستقلال انتقلت إلى الشرق وهناك جددت هويتي وتاريخي واستعدت عذريتي التاريخية النضالية وصرت مجاهدا وضابطا أيضا لعدة سنوات قبل أن يخرجوني في تقاعد بسبب ملاسناتي مع بعض الضباط المجاهدين الذين شككوا في انتمائي النضالي!
من أهم ما ورد في مذكراتي أني التحقت بالثورة المسلحة المباركة مباشرة بعد أن خرجت من بطن أمي!: نعم! بكري كنا كبار ونعرفوا! ولدت من هنا، رفدت "الماترايوز" من هنا، وطلعت للجبل والحبر السري لاحقني والذيوبة يجريوا ورائي ويتبعوا في "ليطراص" نتاع الحبل السري والدم! قتلت زوج ذيوبة وأنا بز! بصح البزوز نتاع ذاك الوقت كانوا رجال! الولد يزاد بشلاغمه! كما الأرندي اليوم! في الجيش، كنت أصغر جندي في كتيبة استشهد كل من كان فيها وبقيت وحيدا! خضت النضال لوحدي مدة 5 سنوات. قتلت من فرنسا الآلاف وأنا بز في عمري خمس سنين! لم أدخل لا مدرسة سانسير ولا مدرسة سيدي مستير! ثم اضطروا أن يتفاوضوا معي وأذعنوا لمطالبي: قلت لهم: تخرج فرنسا من الجزائر، وتتركنا وشأننا نتقاتلوا وإلا نتباوسوا واش دخلها فينا!؟. وإلا سأبقى أحاربكم حتى أخر قطرة من الشعب الجزائري العظيم! خافت فرنسا بنت الكلب، وخاف ديغول، وجاء إلى الجزائر واستقبلني بنفسه في سرية تامة وقرر أن يمنح الاستقلال للجزائر بالسيف على يماه! أنا اللي أرغمته على وقف إطلاق النار واتفاقيات أيفيان! جاهدت في سبيل الله. لم يعرفني أحد ولم أعرف أحدا، لكن أنا من أخرجت فرنسا مرغما عنها وعمري 7 سنوات!
بعد الاستقلال، دخلت المدرسة لمدة عامين! ورحت أتعلم الحروف الأولى بالعربية والفرنسية، ولما وجدوني لا أعرف شيئا ولا أفهم حرفا، أنقلوني إلى الثانوية مباشرة وبقيت فيها عاما واحدا. ثم فوتت الباك وخسرته بامتياز! ودخلت الجامعة الصيفية وربحت الباك بالسيف! دخلت الجامعة وبقيت مجمعا فيها 10 سنوات! غير مجمع في كرسي ونشوف وما فاهم فيها كوعو من بوعو! لم أربح الليسانس، فقررت نبيع المازوت عوض الليسانس! درت طراباندو، ثم قررت أن أدخل العسكر عندما "بغلت" 19 سنة! هناك صرت مجاهدا بأوراقي الثبوتية وضابطا يحمل تجربة كبيرة في القتال! قلت الكثير سرا وعلانية متذرعا بمختلف التهم! ولا حقت كل من شكك في نضالي وفي هوتي وتاريخ ميلادي وتساءل كيف يعقل أن يكون هذا الضابط مجاهدا وهو ابن 20 وعمر الاستقلال الآن 30! قلت لهم: ولدت بأثر رجعي أيها الرجعيون! أنا درت الثورة وأنا بز! ما تفهموش! ورحت أكيد المكائد واصطاد وأدبر مقتل كل من يشكك في تاريخي وأسكت بالقوة كل من ينظر إلي نظرة ريبة أو تحفظ!..
وهذا ما ختمت به مذكراتي بعد أن عرفت أني سألقى الله عما قريب مخلصا لفرنسا:" اتقوا فرنسا وتوبوا أليها تخرجكم من الظلمات إلى النور".
وأفيق وقد أشعلت زوجتي المصباح في وجهي والوقت فجرا: ما تصليش؟ وأنا أرد: علاه وين رانا؟ وين راها القبلة نتاع فرنسا... واش من جهة جات باري؟!
سبتمبر 2015

توفيق الرئيس






توفيق الرئيس



ما أقدم عليه الرئيس مؤخرا من تغييرات في "سلك الكهرباء"، بقدر ما كهرب به الكثير، بقدر ما يكون قد رسم مستقبل البلاد "الأمني"! مستقبل لا يضمنه أحد، رغم أنه بهذه التغييرات، يريد أن يبقى البلاد ما بعد العهدة الأخيرة "غير مكهرب".
الرئيس الذي أخذ على عاتقه مهمة تغيير وجه النظام القديم للجزائر والانتقال بها إلى دولة عصرية ديمقراطية مدنية، كان عليه أن يكون الآمر الواحد والناهي الأوحد! وكان عليه أن يفكك براغي النظام القديمة الصدئة المهترئة. وهذا لم يكن ممكنا بدون صلاحيات واسعة كرئيس كامل غير منقوص، أو كما قال هو بنفسه عن نفسه، قبل العهدة الأولى: لا أريد أن أكون ربع رئيس! أي يريد أن يكون رئيسا كاملا وليس مجرد "فانطوش"! وهذا ما سعى لفعله خلال حكمه وبالتدريج. كان عليه أن يفكك ألغاما عدة أمنية وسياسية، ولكن كان عليه في النهاية وقبل انتهاء العهدة الثالثة أن يزيل خطر "الدولة داخل الدولة"، أو ما كان يطلق عليها إعلاميا بجمهورية الجنرالات والمخابرات!
لقد بدأ بنقل مراكز القوة والسلطة إلى يده عن طريق تحييد بعض الأسماء في "السلطة الفعلية" كما كان يسميها الراحل مهري، نحو العمل الاقتصادي من خلال إغراءات مالية لم تكن دائما ذات سمعة طيبة ولا حتى في إطار القانون! لكن الغاية تبرر الوسيلة: والغاية هي تحييد الضغط على مركز القرار الرئاسي.
آخر القلاع، بقيت له كانت قلاع الاستخبارات، التي يعلم كل منا أنها كانت هي المقصودة "بالدولة داخل الدولة" أو هي "صانعة الرؤساء" وموجهة النظام، إن لم تكن هي النظام نفسه! وكان على الرئيس أن ينقل "إصلاحاته" نحو هذه المؤسسة التي لم يكن أحد يجرؤ على المساس بها وبقياداتها ورموزها. هذا الأمر لم يكن بدون صعوبة ولا احتكاكات داخلية بدت ظاهرة للعيان والآذان قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وخرجت للعلن صراحة على لسان أمين عام الآفلان! لقد كانت هناك تراشقات تفيد بأن هناك احتكاكات وتفيد بأن سياسة التوازنات السابقة قد بدأت تبنى على توازنات جديدة ومعطيات جديدة، لا يمكن نكران تدخل العامل الخارجي فيها (فرنسا وأمريكا) بالعامل الداخلي، والتي تريد كل منها أن ترى الجزائر دولة مدنية عصرية ديمقراطية مفتوحة وقد أنهت علاقتها مع الإيديولوجية الأحادية الأمنية! وهذا خطر آخر: خطر انفتاح البلاد على المجهول في ظل تفكيك النظام الأمني القديم وعدم استبداله بمنظمة أمنية واستخباراتية أكثر احترافية وموجهة توجيها مهنيا غير مسيس ولا مؤدلج! ومن الصعب تحقيق هذا الأمر بهذه السرعة وبهده السهولة.
الكل يرى أن تنحية قائد الاستعلامات..أخيرا، هو نتيجة لتفاهمات وليس فقط رغبة من الرئيس! كما أن الأمر يتعلق أيضا بتوازن قوى داخلية وخارجية (لا ننسى دور فرنسا التي عملت الكثير في هذا التحول من دولة "الجنرالات والمخابرات حسب رأيها"، (ولنقرأ صحفها وما تقول!) إلى دولة المؤسسات، ومن دولة "مدين" إلى دولة "مدنية". هذا التوجه، قد يفتح الباب على كل الاحتمالات: إما أن نكون قد سهلنا المهمة على المؤسسة الأمنية الاستخباراتية للتكفل بصد الأخطار الإرهابية والاقتصادية وحماية الأمن الوطني وترك العمل السياسي مفتوحا بلا ضوابط ولا قيود ولا توجيه ولا تكوين ولا غرف مغلقة ولا صناديق سوداء، ونكون بذلك قد وضعنا القطار على السكة! وإما أن نكون قد فتحنا الساحة  أمام التخابر الأجنبي وعمل الأحزاب والحزيبات والجمعيات واللوبيات على هواها بما تهوى أنفسهم وأنفس القوى التي تدعمها في الداخل والخارج، وهنا نكون قد أبعدنا الأمني الاستخباراتي من السياسي، ووضعنا "السكة على القطار"!
 لكن إلى حد الآن لا أحد منا يمكنه أن يجزم بما قد تسير عليه الأيام القادمة. والأخطر هو تفكيك المنظومة الأمنية الاستخباراتية، من حيث أردنا إصلاحها وتغيير وظيفتها وبنيتها العقائدية.
نمت على هذا الهاجس المركزي لأجد نفسي أحاور لأول مرة الجنرال مدين: العزيز مدين، ما تعليقك على أحالتك للمعاش وأنت في ريعان الكهولة، 74 سنة ما شاء الله مازلت جميلا ومهابا وأنيقا: مدين: أنا من أراد ذلك، أنا من طلب الإعفاء والراحة بعد 25 سنة في المهمة وأكثر من نصف قرن في المهنة. خلاص واش باغيين تحبسوني، باغي نشعر باني مواطن حر لا رقابة على دخولي ولا على خروجي، بغيت نتصور كما الناس! أنا الوحيد المظلوم فيكم! ما عنديش ألبوم فوطو واحد! قلت له: كيف تريد أن أناديك" مدين أم توفيق! قال لي: توفيق، لأنه اسم اخترته وأنا مدين فورثه، مع ذلك أحبهما جميعا! فمدين قوم شعيب (أولطاش)، وتوفيق، توفيق من الله. قلت له: ما رأيك في مستقبل البلاد بعدك؟ قال لي: خليها على الله! الكل يعتقدون أن "توفيق" هو "رب" هذا البلد، وقد قالوا عني أني قد قلت هذا الكلام، وهذا غير صحيح. والله لولا "الله" لما قامت لهذا البلد قائمة بل ولقامت القيامة! فالتوفيق من عند الله! وخطوني منكم! قلت له: لكن ما رأيك في توقيف الجنرال بن حديد مثلا؟ قال لي: بن حديد أراد أن ينتقل من العسكر إلى الاشتغال بالهم السياسي المعارض وهذا ما سيجلب له المتاعب. فنحن نملك واجب التحفظ ولا ينبغي للعسكري عندنا ولو أحيل على المعاش أن يعيش من جديد على السياسة. لما تخرج، يجب أن تنسى ماذا كنت! قلت له: ولماذا هناك الكثير من الجنرالات يعودون للعمل السياسى بعد "تخرجهم" من المؤسسة العسكرية. قال لي: لما نقول الاشتغال بالسياسة، نقصد بها "سياسة المعارضة" أما إذا أردت أن تساهم في سياسة الدولة فلا مانع أن تشتغل في السياسة، لأن هذا ليس عملا سياسيا بل سياسة عمل! نفس الشيء بالنسبة للمساجد مثلا: ممنوع أن ندخل السياسة إلى المسجد، ولكن نقصد بذلك سياسة معارضة السياسة المتبعة، أما إذا مارس الإمام سياسة السلطة والحكومة، فهذه ليست سياسة، بل دين! قلت له: الله يوفقك يا خويا توفيق..نورتنا الله ينور قبرك بكونتور نتاع سونلغاز من نوع 380 فولط!
وأفيق وأنا أردد تحت شفتي خائفا: وما توفيقي إلا بالله!
أكتوبر 2015