Friday, May 10, 2013

"الجزائر العقيمة"؟



"الجزائر العقيمة"؟

وجدت نفسي أدخل المستشفى على عجل بسبب ضغط دم، أوصلني إلى حد أن كدت معها أن أشل أو أفقد الحياة من جراء الغضب والنرفزة التي ألمت بي وأنا أطالع التقارير والملفات الساخنة التي وضعت على مكتبي قبل قيل من طرف عمي عمر.
كنت عاجزا على أن أقرأ سطرا قبل اليوم، كنت أسمع التلفزيون وأحيانا يقرؤون لي الجرائد، لاسيما الأبراج، وصفحات النكت والألعاب، وكنت جد مطمئن لمصالحي في أن الأمور تمشي على أحسن ما يرام. الأخبار التي كانت تصلني والتقارير واجتماعات مجلس الوزراء كلها كانت مطمئنة، بل وأكثر، كانوا يقولون لي أننا "بنينا جنة في الجزائر" من طرف الشناوة، الناس لن يكونوا مجبرين على التفكير أين توجد الجنة، فالجنة تحت أقدام الرئيس. الجنة هنا، وهنا سيحشر كل الخيرين من الناس. قلت لهم بالفرنسة" Bon alors، وين جات جهنم ؟..." قالوا لي: في المغرب!  لهذا طلبت منهم عدم فتح الحدود وغلقها نهائيا، فلا أحد منا يريد الدخول إلى جهنم، ومن أراد ذلك فليذهب إلى الجحيم... جوا.
سألتهم عن أحوال الرعية، قالوا بأنهم يتنعمون، ولا ينقصهم شيء، إنهم فرحون مسرورون على هذه النعمة.
صدقت ولا زلت أصدق أني أصدق! الواقع أني أنا  أيضا ركنت إلى الراحة قليلا بتوصية من الطبيب، وما كان علي أن أجعل لي طبيبا يمنعني من الخروج والنزول كما كنت أفعل في السابق إلى الجزائر العميقة، فكل ما صرت أقوم به منذ سنوات خلت، أني صرت لا أعرف إلا "الجزائر العقيمة"، التي كانت تقدم لي خلال الزيارات الرسمية والمعلنة والمبرمجة والمهيأة سلفا والمخرجة تلفزيونيا وسينمائيا، كما نفعل مع الديكور المتنقل، كانوا "يزورونني" (مش أنا من "يزور") أماكن، أحياء ومؤسسات، لا أري غيرها: يبنون الأشجار ويركبون ديكور الحدائق المعلقة وأراها في التلفزيون، فلا أصدق! إنها أروع من أن ترها بالعين المجردة.... (من النظارات). شيء مبهر! أنحن في الجزائر حقا؟ صدق مطرب حزب جبهة التحرير والثورة الزراعية (سعيد السايح)، عندما قال : هذا ريف بلادنا زلة جنة...هذو ناس أحرار سادة رجعوا فيه....الثورة نحات عنهم المحنة... والتراب الزين ولاو مواليه"! إيه الله يرحمك يا...كي يسموه بعدة؟..مات وإلا راه عاد حي؟ والله ما علا بالي!
كان الإخراج التلفزيوني يزيد جمالا على جمال الصورة الواقعية والحقيقة لتطور الجزائر والشعب الجزائري! لقد قضينا على البطالة "هذا شحال من عام"، التضخم "قلعنا له جد والديه"، الأسعار؟ "خلاص..ثلاثة كيلوا بعشرين"..! "ما بقاوش الفقراء هذا زمان". انتهت السرقات.."المرأة تمشي من باب الواد لرويسو في منتصف الليل ومعها عشرون كيلو.. كيف.. آآه..لوزيز.. وأورو ، ماتخافش.". "الدينار راه خير من الدولار، راه يتصرف في المغرب وفي تونش والعمرة والحج (بصح باش؟؟ بفرنك ونص!)"، "الأطباء راهم يخلصوا خير من الوزراء"، "العمال كلهم زدنالهم في الخلصة حتى بداو يردوا اللي شاط عليهم للدولة"! الخيرات في كل مكان! الاستيراد قل، والإنتاج الوطني زاد حتى في التصدير. الصادرات الجزائرية من غير النفط، "راها تفوق صادرات النفط|، الأدوية، نصنعها محليا، ولا دواء واحد يدخل، بل نصدر (المرض ..ربما!). الجوائز؟ كل مرة نتحصل على المراتب الأولى (.. في ذيل القائمة!) في العالم. أرقام مدهشة، بالفعل، والحقائق على الأرض كما رأيتها (أو رأوها هو إلي!) واقعية.. "أنا شفت بعيني!..ما كان لا ربيع عربي ولا أمازيغي.. كملنا مع هذا الحس..خلاص الشعب دخل الجنة، واللي بغا يدخل للنار، هاهي الحدود وطراباندو  والمازون كاين.. وليسانس كاين كذلك"!
هذا، ما كان يقال ما قيل وما قدم وما كتب لي في التقارير الشفهية والكتابية في الزيارات الميدانية.
كان علي أن أستقبل، على مضض أحد المجاهدين الأقارب الأباعد، (دخلته بالسيف، هبلني..خرجني من عقلي)، كان معي في الثورة، ولم أره منذ ثلاثين سنة. لا يزال فلاحا في قريته النائية، لم يستفيد من أي شيء ولم ويسجل نفسه حتى مجاهدا. رفض أن يتاجر بالجهاد. متعلم وحافظ للقرآن، كل أبنائه صاروا أطباء ومهندسين وطيارين، وبقي هو فلاحا يفلح قطعة أرض عائلية إلى اليوم هو وثلاثة من أحفاده. منعوه من الدخول أكثر من مرة، كانوا يمنعونني من أن يتصل بي أيضا، فصرت أنا الآخر أتمنع عن استقبال أخباره ومكالماته من حين لأخر. لكن هذه المرة، قررت أن استقبله لدواعي عائلية..فقد أخبرهم أن المسألة عائلية، فتركته يحضر، لكنهم اشترطوا عليه ألا تتجاوز مدة الاستقبال 10 دقائق، بحجة أني مريض ولي أعمال شاقة وأجندة مليئة حد الحلقوم،، وهذا قبل أن يدخل علي، ليروي لي الحقائق... وبالملفات. كان قد دخل بمحفظة، لم يتركوه أن يدخلها فأخفاها تحت جلبابه بحيث لم يتمكن الحرس من اكتشافها. فعادة ما يدخل عندي أحد من غير الشخصيات أن يجرد من ثيابه ويستحم حتى لا ينقل لي مرض أنفلوانزا الخنازير.
استقبلته واعتذرت له تحت عدة أعذار قبل أن ينقل إلي الأخبار كلها عن الجنة على الأرض "التي كانوا يوعدون" وعن "جنتان عن يمين وشمال" كما كانوا يدعون. أطلعني في ظرف ساعتين على كل الأشياء (نهرت البروتوكول أربع مرات، والذي جاء كل مرة، ليطلب منه التفضل لأن وقت الاستقبال قد انتهي).أطلعني أيضا على الملفات التي حملها إياها بعض ممن يعرفون أني لي معه قرابة عائلية ونضالية. وكانت الكارثة. فساد عام وجهنم على الأرض.
لم أتمالك، وهويت مغشيا علي بعد أن شعرت أن بركانا انفجر في دماغي، ولا أتذكر سوى أن عمي عمر، كان يقول هم: والله ما أنا...أنا خاطيني,, وهو يقاد بالضرب والسب خارج المكتب. يعلم الله ماذا جرى له فيما بعد.سأرى ذلك عندما أتمكن من الكلام.
وأفيق لأجد نفسي لا أستطيع الكلام، فقد تكور لساني في فمي وعجزت عن تحريكه حتى وأنا أقول لأبنائي من حولي الذين كانوا يتباكون: ممممات..تتبكييييووووش!

0 Comments:

Post a Comment

<< Home