Saturday, December 31, 2016

الراعي والجرة

الراعي والجرة


عندما يعلن رئيس منتدى أرباب العمل بأن هؤلاء الأرباب (ما عدا رب ـ راب) مستعدون لتمويل الخزينة العمومية، فهذا يعطينا مؤشرا على حجم "تغول" المال الخاص على حساب التقزم السياسي العام! فلقد وصل بنا الأمر أن أنجبنا أرباب أعمال  من الأنابيب وأنعشناهم وكبرناهم وربيناهم من مال خزينة الشعب وبمال نفط الشعب إلى أن صاروا كبارا بعد سنوات قليلة لا تتعدى 15 سنة! وصاروا هم من يخططون ويسيرون ويبرمجون ويقترحون ـ حتى لا نقول "يفرضون" ـ قوانين وبرامج وميزانيات وتشريعات تخدم البلد الذي يخدمهم أو لنقول بشكل مختصر، "التي تخدمهم"! وصاروا هم من يعرضون فكرة تموين الخزانة العمومية التي فرغت لأجلهم وبهم! عادوا هم من بيدهم الحل والربط والتمويل وإنقاذ البلاد من الأزمة!
لا نقول هذا من باب التجني، ادعاء أن كل رجال الأعمال يتصرفون بعقلية النهب والسلب، لكن الكثير منهم يبني ثروته على هذا القانون! مع العلم أن هناك كثير من رجال الأعمال النزهاء الذين يعتمد عليهم في بناء اقتصادي وطني متكامل، بعضهم خارج السياق السياسي للأسف!
نمت على هذا التخوف من تعاظم هيمنة قطاع رجال الأعمال في كل الميادين بما فيها البنوك والشركات الكبرى الوطنية التي ستفتح رؤوس أموالها للقطاع الخاص من هؤلاء الذين بنوا ثروتهم على البنوك الوطنية ذاتها! أي أن بعض رجال الأعمال سيصبح شريكا في رأس مال شركة مالية بنكية هي من كانت قد مولته بالملايين الأولى لبناء ملياراته فيما بعد، مما سيسمح له بشراء البنك كله بعد عشرية أو أقل! نمت، لأجد نفسي أعود للخلف في حلم عسير!
أنا الآن في سنة 1990، وقد خرجت في تقاعد مسبق من شركة وطنية تنتج الحليب! تقاعدت لأعمل مهرب بضائع من المغرب متخصص في سراويل الدجين! كنت أحمل الأكياس على ظهري تهربا من الباراجات، والتفافا عليها، ثم نجتمع جميعنا كعصابة مهربين لينقلنا أحد الخواص بسيارته أو حتى في الحافلات إلى مسافة أخرى، ثم ننزل ونلتف على الباراج ثم تعود السيارة فتحملنا بعد الباراج إلى أن نصل إلى الغاراج! إلى "الأرض الموعودة"! هناك نبيع ونوزع ونجمع الغنائم! في أوقات الأزمات، كنا نهرب المسكرات، والعلك والألبسة النسائية وأجهزة الراديو والمسجلات وغيرها، لكن الدجين كان يمشي أحسن من غيره باعتباره له رِجلان!
في ظرف خمس سنوات، كنت أنتقل إلى المغرب عبر المعابر الحدودية السرية بالسيارة! ونسوق كل شيء بالجملة! بالكاميو! هذا لا يمنع أن نرشي هذا وأن نشتري الطريق من هذا أو ذاك! صارت لنا أعين وأرجل وأذرع ومنافذ ونفوذ ونقود!
وما إن انتهت سنوات الإرهاب التي اشتغلنا فيها بشكل جيد بعيد عن المراقبة وبالتواطؤ أحيانا حتى مع الإرهاب بناء على قاعدة "التهريب والترهيب" وجهان لعملة واحدة، صرنا نحسب ثروتا نحن العشرة من المهربين بملايير الدينارات!
صحيح أني لم أشتغل كثيرا في مجال تهريب المخدرات، رغم أني اشتغلت فيها لمدة سنة، أي الأشهر الأخيرة قبل أن أتوجه نحو الاقتصاد المؤسساتي، لكن سنة واحدة كانت كافية لمضاعفة ما بنيته من ثروة خلال 20 سنة! لكن مخاطر المخدرات كبيرة، لهذا تركت هذه المهمة لغيري، وانخرطت في الصناعة! صناعة الشمة! ثم صناعة الشامبوان بالبيض الفاسد! ربحنا كثيرا من الفائدة! فبعدما كنا نهرب البيض الفاسد في صهاريج نحو المغرب، تفطنا لما يصنعون به: الشامبوان! فقلت: لماذا لا نصنع نحن هذا الشامبوان في بلادنا ونطلب من البنوك "سلفية" سالفي! منا وإلينا! تفاهمت مع عدة بنوك، عندي أصحابي في كثير من إداراتها المركزية والجهوية والذي سهلوا لي قبول ملف الجدوى الاقتصادية! بدأت بالشمة والشامبوان، ووصلت إلى صناعة القوفريط وتعليب السمك وإنتاج التلفونات والباتريات وتركيب الدراجات النارية والبخارية وصناعة بعض قطع غيار التراكتورات في الصين وبيعها في الجزائر!
واليوم، وبعد 26 سنة، أنا أجني من الأرباح ما لم تجنيه سوى شركة سوناطرك وسونلغاز! نحمده ونشكره على نعمه ونشكر بلدنا الذي لولانا لما كان ليبقى "مفروع" الرأس بعد الأزمة العابرة التي مر بها! واليوم نحن نتطلع لتمويل كل المشاريع التي تتبناها الحكومة والتي هي من اقتراحنا! ومستعدون أن نسلف للجزائر بالدولار! بل أنني ذهبت إلى أن قدمت مع زملائي في "دبج" (ديوان الباطرونة الجزائرية) مقترحا يقضي بشراء شركات وطنية "Cobra" ومقرات ودواوين منها "سوناـ ترك" و"سوناـ لغز" و"إير آلجيري" و"سكك حداد" و"الترامب" والمطارات وشبكة الطرق والإدارات المركزية وبعض الوزارات، وقصر المؤتمرات الجديد والقديم ومقر البرلمان ونموًل البرلمان بغرفتيه بعدة غرف في ناطحات سحاب! نحن ننتظر الرد! هكذا، سوف نشتري الجزائر بأموال الجزائريين لكي نقدم لهم العمل بالخمس، أي بأجر يمثل خمس الأجر القاعدي السابق! ونكون بذلك قد أعدنا إدماج الخماس وأدخلنا إلى الصناعة والتجارة بعد أن كان فقط في الفلاحة والزراعة! كما أننا سنجعل من بعض المواطنين من متعلمين ومثقفين وباحثين رعاة لقطعان الأغنام في الهضاب العليا بعد أن اشترينا كل المواشي من الموالين السابقين وأدمجنا كل هذه القطعان ضمن شركة خاصة تضم 5 ملاك وصناع ورجال أعمال هم من يحتكرون الرعي وتربية المواشي من أجل ضمان لحوم حمراء بسعر نحن من يحدده ولا استيراد إلا من طرفنا بحسب دفتر الشروط! سنعلن عن مسابقة لحاملي الماجستير والدكتوراه علوم وعلوم إنسانية واجتماعية من أجل الالتحاق بمنصب راع وراع مربي وراع حلاب، وراع لحام وراع بياع! ونحن متأكدون أن الإقبال على المسابقة سيكون كبيرا بعد أن جمدنا بقرار كل مسابقات التوظيف في القطاعات الأخرى غير الرعوية والفلاحية. سنعين وزراء لنا في "الحكوـ مات" القادمة وقد يكون رئيس الحكومة نفسه من الحومة! والشعب الجزائري سيكون في طليعة الشعوب التي ترعى..

وأفيق على وقع قارورة ماء زجاجية تهوي على أم رأسي من علو مترين، تركتها تبرد في مهب "لاكليم"! آآآي... هذه هي قصة الراعي والجرة!

أكتوبر 2016

0 Comments:

Post a Comment

<< Home