Saturday, December 31, 2016

بكالوريا مفخخة

بكالوريا مفخخة


لم تعرف الجزائر منذ الاستقلال فضيحة في الباك بمستوى ما حصل هذه المرة! حتى تسريبات 92 في عهد الوزير الأسبق " علي بن محمد"، لم تبلغ هذه الدرجة من التسريبات التي طالت معظم المواد، ولا حتى مستوى الغش "الجماعي" العام! صحيح أن تكنولوجيا الإنترنت وانتشارها السريع عبر الجيل الثالث خاصة مع انتشار الهواتف الذكية، هو من جعل التسريبات تصل إلى القاصي والداني  حتى أصبع التلميذ يراجع الامتحان المسرب في البيت، ويبيت ساهرا إلى الخامسة صباحا ينتظر نشر الأسئلة والأجوبة النموذجية في مواقع التواصل الاجتماعي ـ خاصة فيسبوك ـ قبل أن يذهب ليجيب على السؤال الذي اختاره سلفا، ويطلب من موزع الأسئلة بشكل علني "أعطني السؤال الأول" أو الثاني" معلنا له أني أعرف الأسئلة مسبقا! التحدي في الغش الذي صار يمثل "قفازة" وشطارة لدى التلاميذ حتى أنهم راحوا يتفاخرون أمام قنوات التلفزيونات نقلت الأخبار من أمام الثانويات، بأن السؤال كان بحوزتهم قبل الدخول إلى القاعة! بل  ويعطون الصحفية والمصور حتى هواتفهم ليقولوا لها: شوفي شوفي! والله غير كان عندي السؤال قبل ما ندخل! رانا نراجعوا الأسئلة في البيت ونروحوا نفوتوا في الكلاصة!" بل أن البعض جعل من هذا الباك تنذرا بقولهم ساخرين: من أراد العلا سهر الليالي"، يقصدون السهر إلى الصباح بحثا عن التسريبات في الانترنت!
أكثر من ذلك، التسريبات بدأت من اليوم الثاني، وبعلم الجميع، مع ذلك لم توقف الامتحانات! ولولا الشوشرة الإعلامية وضغط المنظومة التعليمة من نقابات، لكانت الحكومة قد مضت في دعم الوزارة الوصية لتمرير الباك بردا وسلاما، كما لو أن شيئا لم يكن! فقد عودتنا الحكومات أن تلعب دور النعامة وتطبيق سياسة الهروب إلى الأمام! ولولا الخوف من السمعة والتنزيل في التصنيف لدى اليونسكو، لما أخذت الحكومة والوزارة هذا الأمر بجدية، مما يؤكد مرة أخرى على أن التعليم عندنا إنما هو ذرا للرماد في الأعين العمياء، ومسحوقا تجميليا يراد به إخفاء العيوب بعيوب أكبر! على أساس أنه عندنا كذا مليون طالب وكذا مليون ناجح وكذا ألف متخصص وكذا رقم متمدرس، للافتخار أكثر ما هو للاستثمار! أي استثمار في الافتخار لا غير!، وإلا، أين هي نتائج المنظومة التعليمة من الثانوي إلى الجامعي في تطير الاقتصاد والإنتاج والتعليم والكفاءات الوطنية؟ إننا ننتج عاطلين عن العمل وفقط!
نمت على وقع أحداث الباك ونتائجه ومقدماته التي لا تبشر بخير رغم قرار الوزارة العمل على إصلاح المنظومة التعليمة وإصلاح جذري في طريقة إجراء الباك، الذي على الأرجح يكون في دورتين كما كنا نفعل قبل الإصلاح الأول في 71! هذا النظام ورثناه عن فرنسا، وفرنسا الآن تخلت عنه، لنعود له نحن أيضا! إنها نفس الحالة التي حدثت مع وزير الاقتصاد عندما رفض لربراب مصنعا في الجزائر قيل عنه أنه "خردة"، لأن هذا الأخير قام بتجديد نفس المصنع بفرنسا بمعدات وآلات جديدة، هي نفسها من أراد إدخالها للجزائر! يعني أن فرنسا نقدم لها تكنولوجيا جديدة والخدرة نستقدمها للجزائر على أساس أنها "جديدة"! يعني لعنتان في لعنة واحدة: الغش والكذب! بوشوارب كان على حق! لكن على سلال أن يكون على حق ويرفض إصلاحات قادمة من فرنسا "خدرة" كانت فرنسا قد تنصلت منها سابقا! فلم نستقدم الخدرة الثقافية والتعليمة لنجربها على أطفالنا وأبنائنا، بدون خشية من "الحساسية " والإيكزيما والأمراض غير الجلدية! فالأمراض الفكرية والثقافية والعلمية التي سنورثها لأجيال ألعن وأخطر لأنها ستبقى وستورث، في حين أن خردة الحساسية الجلدية المستورة مع ذئاب الاستيراد من الصين، قد لا تمس إلى من يلمسها!
نمت على هذا الهوس، لأجد نفسي أنظم باك 2017، بعدما فشلنا في حجب المواقع كلها وبعدما لم نتمكن من ضبط المسربين رغم أننا قضينا على "خلايا نائمة" من المسربين في المنظومة التربوية بالتعاون مع أصحاب الشكارة والسمعة والسلطة الذين دفعوا لأموال للمسربين من أجل شراء الأسئلة، إلا أن التسريب بقي هاجسا حاضرا دوما، لأن الطمع يفسد الطبع! وما دام أن الفساد قد عم، فلا إمكانية لتوقيف هذا السرطان إلا بالبتر الشامل! لهذا قررنا أن نجري الباك في الثكنات العسكرية عوض الثانويات! على اعتبار أن النظام العسكري بانضباط جنوده وضباطه، هو الوحيد الذي يمكنه أن يمنع هذه التجاوزات! قسمنا التلاميذ على الثكنات وقطعنا الانترنت لمدة شهر ، ووضعنا بجوار كل ممتحن جنديا مسلحا وبجانبه شرطي ويحرس الجميع ضابط برتبة قبطان مع كاميرات في كل قسم ومشوش على الانترنت وهي مقطوعة، في كل ثكنة! الهواتف ممنوعة والتفتيش صارم! بالتعري الكلي أمام ضابطين من الأمن والجيش بالنسبة للإناث وضباط وصف ضباط من الجيش والشرطة بالنسبة للذكور! في الخارج، الثكنات محروسة بالدبابات وقاذفات صواريخ ورادار مشوش وملتقط للموجات ما فوق صوتية.
كما تم الإعلان حالة الطوارئ القصوى عبر كامل التراب الوطني طيلة شهر ـ رغم أننا قلصنا مواد الباك إلى النصف بعد الخلص من التربية الإسلامية والتاريخ واللغة العربية للعلميين والإبقاء فقط على المواد العليمة، فيما أبقيت الرياضيات وأضيفت الفيزياء لطلبة أدب عربي!
الأسئلة كانت تقدم على شاشة الكترونية وليس في شكل أوراق! الأسئلة مرسلة مباشرة من وزارة الدفاع الوطني في الحين والساعة والدقيقة: حتى الأسئلة يبدو أنها صيغت من طرف ضباط مثقفين ومتعلمين وخريجي المدارس الوطنية: مثل هذا السؤال في التاريخ: يقول السؤال": أنتبه أستااااعد! حط سلاااااحك! حط أقلااااامك! تحدث عن ثورة التحرير وكيف قضت على فرنسا حتى خرجت هذه الأخير مدحورة منحورة وكيف أن جيش التحرير كبد الحلف الأطلسي خسارة ما بعدها خسارة. انتهى السؤال الأول! أنتبه..أستاااااااعد! أجب!
التصحيح، وقع معه نفس الشيء في الثكنات وحراسة المصححين بنفس الطريقة!
ولأول مرة لم يحدث تسريب، ولأول مرة نضطر لنقول أن المدنيين الموجودين حاليا وسابقا، قد فشلوا حتى في إجراء امتحان للأولاد! فكيف بإمكانهم تربية الأولاد؟
صحيح أن النتائج كانت ضعيفة جدا: 20 في المائة فقط فازوا في الباك، لكن هذا هو الباك؟ وهل تريدون أن ينجح كافة الشعب الجزائري، حتى من لم يدخل المدرسة قط..؟

وأفيق وقد غمرني عرق هذا الشهر الحار الذي لم أجد فيه برا ولا بحرا في خضم هذا النهر الجاف صيفا الجارف شتاء الذي بنيت فيه براكة لعلني أرحل عما قريب إلى عمارة "الشراكة".

جويلية 2016