Saturday, December 12, 2015

..والحمير لتركبوها...




.. والحيمر..لتركبوها..

أمام التغيرات الاجتماعية والثقافية وتحطم القيم من خلال هذه المتغيرات السلوكية والقيمية التي فرضت على المجتمع من خلال هذا التحول المريع وغير المدروس، وجدت نفسي أغرق وسط دوامة فوضى النقل والسير والحركة المرورية في المدينة. جهنم على الأرض. لا أحد صار فينا يحترم القاتنون، لأن احترام القانون بما في ذلك قانون المرور، صار يعتبر من الضعف والمهانة، فيما "حرق الفيروج" والتجاوز على اليمين وعلى اليسار أينما وجد ممر لتمر به السيارة (وأحيانا ممر لا يتسع لها)، والتوقف متى بدا لك ومتى  شئت وأينما أردت، والسرعة المفرطة والتعقب والمطاردة من أجل اللهو..كل هذه الأمور صارت عندنا بمثابة "قفازة" و"شطارة" ونكاية في الدولة والقانون وتعبير عن القوة وعن المكانة، لأن من لا يخاف من الشرطي ومن الدركي، فهذا معناه أن له من يحميه فوق القانون (قصة طريفة وقعت فعلا لأحد الأصدقاء: كان في موكب عرس، وكان السائق شابا يسوق سيارة مرسيدس آخر طراز. ما إن أقلع الموكب، حتى رفع الشاب وتيرة صوت شاب لا فرق بين صوته وصت الحمار..يغني.. أي ينهق. ثم فجأة، وضع السيارة في وضعية "لا إنقلاب"، لأن السيارة مزودة بنظام تحكم في العجلات والمقود، بحيث أنه في هذه الوضعية لا يخشى عليها من "الانقلاب". وصار يتلوى كالثعبان بالسيارة وبمن بداخلها، حتى كان أن يخرج أمعاءهم من بطونهم. سيارة الشرطة المتوقف، أوقفت السيارة المتمايلة في الطريق يمنة ويسرة..طلبوا منه وثائق السيارة، فرد عليهم بصيغة عجيبة: ما نعطيكمش الكواغط، فطلبوا منه أن يتبعهم، فرد عليه: ما نتبعكم..ثم أقلع السيارة وراح يسابق الرياح. سيارة الشرطة، تعقبته قليلا ثم توقفوا عن السباق الخاسر. ماذا يقول الشاب السائق لمن كانوا معه في السيارة وهو لا يعرفهم وهم لا يعرفونهم، لأنه من أهل العريس وهم من أهل العروسة؟: قال لهم مبررا ما فعله وبصيغة العجب بالنفس والاستكبار: اللوطو.. أنا شاريها على ولد الهامل..). هذه القصة الحقيقية لأبين كيف صارت عندنا الفوضى..منظمة بطريقة جيدة.
لم أجد أمام هذه الفوضى المنظمة تنظيما محكما، سوى أن قررت التعاقد مع شركة فرنسية أمنية لتنظيم المرور وتطبيق القانون. فقد كنت في فرنسا قبل أشهر ولاحظت كيف أن الشرطي يحضر عند رأسك عند كل خطأ أو تجاوز للقوت في ركن السيارة أو تجاوز. كما تأتيك الغرامة إلى البيت في أسرع وقت، بعد السرعة التي أخذها لك جهاز السكانير من حيث لا تدري. لا أحد هناك يتدخل ليرد لك جواز سفرك المنزوع أن لينزع عنك العقوبة أو يخففها أو يمحوها. القانون فوق الجميع.
قمت بالتعاقد مع فرنسا وشرطة فرنسا، أي مع الاستعمار القديم، ليطبق لنا قانون المرور (كما نفعل مع الاقتصاد والثقافة والعلم والرياضة ..التعاقد مع الأجانب ليعلموننا كل شيء وليصنعوا لنا ما نأكل وما نشرب). فلعل الجزائري لا يفهم لغة أخرى غير لغة المستعمر. وفي ظرف سنة، تفاجأت: العجب العجاب. قلت حركة المرور، لم تعد هناك إلا الحافلات والطرام والقطارات وبعض السيارات. سألت عما حدث، فقيل لي: أنت من تسبب في هذا المشكل..سترى بعد عام ماذا سيحصل..
وبعد سنة، لاحظت أن الحمير والبغال وقليل من الأحصنة، وكثير من العربات المقطورة من طرف الحمير والبغال، صارت تملا الشوارع. سألت عما حدث، فقيل لي: أنت من فعل هذا (بآلهتنا يا إبراهيم)..: لقد تم تجريد معظم الناس من رخص السياقة وتم حجز الكثير من السيارات بسبب سوق السياقة وعدم احترام قانون المرور، وقد عاد الناس إلى أصولهم التاريخية كما كانوا قبل عهد النفط والسيارات. قلت لهم: ولم لم تقض الشرطة على الحمير والبغال والعربات أي "البغال المعربة"؟. قالوا لي: لأن قانون المرور للحمير محترم حاليا.. فقد وجد الناس الذين كانون يسوقون بطريقة حيوانية سياراتهم، وجدوا أنفسهم يتأقلمون مع طبيعة انتمائهم الأول.. وهي قيادة الحمير والعربات المبغلة. قلت لهم: وأنتم، ما أريكم فيما حدث؟ قال لي البعض، أن هذا غير جيد على مستوى صورتنا في الخارج، فقد عدنا للخلف بأكثر من 70 سنة، فيما قال لي آخرون أن هذه هي طبيعتنا ومكانتنا الحقيقية.. والعقل والثقافة لا يمكن أن يتماشى مع الاقتصاد والمال: فكم من ثري ملياردير لا يحمل إلا عقل بغل، وكم من فقير يملك عقل عاقل ومتحضر، ولكن المال ثار اليوم المقياس، ولهذا صار الحمار "خيار الناس". التحضر ليس بالمال، بل بالأخلاق والتربية، والحمير لا تربى لتصير متحضرة، الحمار حمار والعربة عربة..والبردون بردون..والأتان أثان... وشتان ما بين غانا وفرغانا.
وأفيق من نومي وأنا أقول لهم: أين حماري؟ هل لا يزال مربطا في جدع الشجرة خارج البيت ؟ هل أكل شيئا؟..هل شرب؟ (لم أكن أعط السيارة لا ماء ولا زيتا حتى احترق محركها ولله الحمد على نعمة العودة إلى الأصل).

0 Comments:

Post a Comment

<< Home